من أعلام حلب في الفكر و اللأدب.....بقلم الكاتب د عبد الحميد ديوان

 من اعلام حلب  في الفكر والأدب
خير الدين الأسدي
1900 - 1971

لئن كان المتنبي كما وصفه الأدباء في عصره والعصور التالي


ة (مالئ الدنيا وشاغل الناس) فالأستاذ الأديب خير الدين الأسدي كذلك ملأ الدنيا بإبداعه وشغل الناس به زمناً طويلاً ولازال يشغلهم بما قدمه عن مدينة حلب المعشوق الأول والأخير له. فحلب بالنسبة له (درة الزمان ولؤلؤة الحياة) التي لا يتنفس إلا من خلالها.
لقد أفنى خير الدين الأسدي حياته يبحث في مدينته ومعشوقته حلب أدباً ولغة وتاريخاً وحكاية فلم يترك شيئاً عنها إلا سطره في كتبه العديدة والتي كان أهمها على الإطلاق (الموسوعة).
ولنقرأ ما قاله الأسدي نفسه في مقدمة كتابه (حلب الجانب اللغوي من الكلمة):
"منحتك يا حلب كل ما انطوى عليه قلبي من كنوز الخير، وكتبت على النفس أن تضنى لرسالتها، وتضنى: فحرام على قلبي أن ينال بلة من الماء إن كان في البلة ما يمسُّ مثله، وحرام على قلبي ألاَّ يولي الجميل جميلاً وأكثر".
ألا ترى معي أن كلمات الأسدي هذه تعكس روحه المتوثبة وعشقه الخالص لمدينته التي آثرها على كل الدنيا (حلب). لقد بلغ عشقه لها حد التوحد فهو كالصوفي الذي نشد التوحد بالذات الإلهية. وسار في هذا الطريق طيلة حياته. وهذا ما فعله الأسدي مع مدينته حلب، أو كما يقول هو: "هذه حلبي أنا.. حلب أحلامي".
لقد خصّ الأسدي حلب بأفضل مؤلفاته وبموسوعة تعتبر أكبر موسوعة في العالم صنفت في لهجة مدينة (كما يقول الأستاذ عبد الفتاح قلعه جي). ولكن حلب لم تردَّ الفضل لعاشقها فقد جفته وهجرته فقد لقي في سنوات عمره الأخيرة من شظف العيش وقسوة الزمن عليه ما لم يلقه أديب أو شاعر. فقد انتهى به المقر إلى دار العجزة وما هو بعاجز حتى مات غريباً وحمل إلى المقبرة بلا جنازة ولا مشيعين، حتى أن الأديب الأستاذ خليل هنداوي قال في حفل تأبينه: "حق أكلنا، ولحم نهشنا، واليوم جئنا لنكرمه في مثواه". لقد ودعت حلب علاّمتها وعاشقها كما يودع الغريب الذي ليس له وطن.
أما الآن فلنعد إلى البداية. فقد ولد العلامة محمد خير الدين أسد عام 1900 لأبوين حلبيين من أصول عربية صرفة، فأبوه هو الشيخ عمر رسلان أسد من رجال الدين، وأستاذ النحو والصرف في المدرسة العثمانية. وأمه أسماء شماع من أسرة معروفة كانت تمتهن التجارة.
درس في مدرسة شمس المعارف قرب القلعة. ثم في مدرسة الرشدية فالعثمانية، وتتلمذ في المدرسة الأخيرة على يد الشيخ بشير الغزي في النحو والشيخ محمد الحنيفي في البلاغة والشيخ محمد الزرقا في الفقه.
والصدمة الأولى التي تلقاها الأسدي كانت طلاق والدته في سنوات المراهقة الأولى ثم كان سفر أبيه إلى الطائف بعد أن تزوج مرة ثانية لكي يدرس هناك مدة سبع سنوات عاد بعدها إلى حلب عام 1937م، وقد دفع اعتزاز الوالد باللغة العربية إلى تغيير كنية العائلة من "رسلان" إلى "أسد" وأضاف خير الدين إليها ياء النسبة في تصدير مؤلفاته.
مارس الأسدي التدريس في عدة مدارس عربية وأجنبية، وفي عام 1923 أخرج لطلاب المدرسة الفاروقية مسرحية (استقلال أمريكا) وفي الفصل الثاني انفجرت في يده كمية من البارود بترت كفه. ولشدة ولعه بالتمثيل والمسرح قال للممثلين قبل أن يغمى عليه "امضوا في إنجاز التمثيل ولا يحزنكم موتي".
وقد كتب عن هذه الحادثة فيما بعد فقال: "يا يوم انتثرت يدي! ليكن مطلك برداً وسلاماً، فللمثل العليا قدمت قرباناً من لحمي ودمي".
ولقد كرس الأستاذ خير الدين الأسدي حياته في عالم التأليف والغوص في جزئيات المسائل النحوية واللغوية والفولكلورية الشعبية. وأغنى معارفه برحلات علمية وسياحية زار فيها بلاداً ومدناً كثيرة كفلسطين ومصر وتركيا والعراق وأفغانستان وإيران وغيرها من بلاد العالم الشرقي والغربي، وكان في رحلاته يطلع على خزائن الكتب والمخطوطات كما في إسبانيا واليونان والنمسا وغيرها، وكان يلتقي في تلك البلاد بأعلام الفكر والأدب.
ولتفرغ الأسدي لعمله التدريسي والتأليفي ورحلاته المستمرة عزف عن الزواج. وكان يصوم أياماً كثيرة ليوفر ثمن كتاب يشتريه، وقد اقتنى في حياته مكتبتين:
الأولى: أهداها إلى دار الكتب الوطنية عام 1946 لقاء وظيفة في الدار وهبة شهرية يتلقاها منها كانت زهيدة. ولكن رئيس البلدية في ذلك الزمن فصله من عمله وقطع عنه هذه الهبة نتيجة خلاف حدث بينهما.
والثانية: بقيت عنده في بيته حتى وفاته، فباعها أقرباؤه مع داره في حي الشيخ طه، مع أنه وجه كتاباً إلى المحافظ يعلمه فيها أنه أهدى المكتبة إلى بلده وأن تصبح هذه المكتبة داراً تسمى دار الأسدي.
وفي عام 1940 توفي والده وفي عام 1949 توفيت والدته فتلقى صدمة قاسية كانت رفيقة دربه ومساعداً له في احتياجاته المادية.
وفي عام 1950 انتخب نائباً لرئيس جمعية العاديات. وبقي في منصبه حتى وفاته. أما مؤلفاته فهي كثيرة ومعظمها في حلب وما يتصل بها وسنوجز الحديث عنها إلا مؤلفه الأكبر والأشمل "موسوعة حلب المقارنة" فهذا المؤلف يستحق منا أن نتوقف عنده طويلاً ولن نفيه حقه لأنه عمل معجز أنجزه رجل مفرد وهو الذي يحتاج إلى كادر علمي ولغوي كبير حتى ينجز.
يقول الأسدي عن كتابه في المقدمة: "موسوعة حلب حصاد عمر قضيناه في الدراسة والتدريس بجوار خزانتنا الزاخرة بكل أثر لغوي، ثم قضيناه في سياحات إلى خزائن العالم، والاتصال بذوي المعرفة. وإن كتابي يعتز بأن يعلن أن ليس لمدينة في العالم، في أوروبا ولا غيرها، كتاب حافل بكل أواصره الدقيقة ككتابي"( ).
وفي مكان آخر من المقدمة يخبرنا كيف عمل على تأليف كتابه، فهو يلتقط مفردات اللهجة الحلبية من أفواه الناس حوله ويشبه نفسه بالأصمعي عندما خرج يلتقط مفردات اللغة العربية من بطون الصحراء ومن أبناء القبائل التي لم تلامس الحضارة شفاههم: "ها أنذا ألتقط من أفواه مَن حولي لهجة حلب التقاطات الأصمعي ومَنْ جاراه مفردات العربية قبل نحو عشرة قرون، ثم ها أنذا أعرضها في أمسياتي على خزانتي الزاخرة باللغويات أو أقلب أنا فيها النظر وقد أخطئ وقد أصيب"( ).
وموسوعة الأسدي تنفرد عن باقي مؤلفاته الكثيرة والهامة أيضاً، فهي تتبوأ مكانها رفيعاً بين الدراسات اللغوية المقارنة، لأنها وضعت من أجل الكشف عن الأصول اللغوية التي عملت على تكون لهجة المدينة.
ولا ننسى أن هذه الموسوعة تعد أهم مصدر من مصادر التراث الشعبي. واهتمام الأسدي بمدينة حلب نابع من أمرين أساسيين هما:
أولاً: حبه لها بل فلنقل عشقه لها الذي جعله يتوحد بها فحلب كما يقول (حلبي أنا) وهذه الأنا تعني الملكية الخاصة التي يشعر بها تجاه مدينته حتى ليغار عليها من نفسه.
وثانيها: أن مدينة حلب مدينة تاريخية عريقة وغنية بسكانها ومواردها وكانت محط اهتمام الناس على مر العصور فقد كانت المحطة التجارية الرئيسية في بلاد الشام و(عاصمة الشمال) كما يطلقون عليها، وهذا ما جعل الأسدي يشعر بأهمية مدينته ويرى أنها تستحق منه أن يخلدها عبر تخليد لهجاتها وعادات أهلها وحياتهم الاجتماعية.
وبالإضافة إلى غنى الموسوعة بالمفردات اللغوية التي يردها الأسدي إلى مصادرها العربية الأصيلة فهي غنية أيضاً بالمعلومات التاريخية والجغرافية والثقافية والاجتماعية، وهذا ما يجعل قراءتها متعة للنفس وفائدة للعقل، فقد بث فيها المؤلف من الأخبار العلمية والوقائع الشعبية وطرائق الطعام واللباس والأفراح والأتراح وغير ذلك مما تميز به أهل حلب.
لقد حقق الأسدي في موسوعته معجزة العصر مما لا يستطيع أن ينجزه غير كادر موسوعي اختصاصي، وهي تعتبر بحق تكملة للمعاجم العربية. فالعامية تطور طبيعي للفصحى، والموسوعة ليست معجماً لغوياً فحسب بل هي دائرة معارف ومعجم شعبي فولكلوري إنساني، فهو مرآة حلب أمام العالم.
والكتاب الثاني في مؤلفاته هو:
حلب الجانب اللغوي من الكلمة: وطبع في مطبعة الضاد بحلب 1951 والكتاب ترجمة علمية لحالة العشق التي يعيشها أديبنا وكما رأينا ذلك في موسوعته. ويصدر بحثه في هذا الكتاب بقوله: "منحتك يا حلب كل ما انطوى عليه قلبي من كنوز الخير، وكتبت على النفس أن تضنى لرسالتها وتضنى: فحرام على قلبي أن ينال بِلَّةً من الماء إن كان في البلة ما يمس مثله، وحرام على قلبي ألا يولي الجميل جَميلاً وأكثر".
ثم يتابع في عنوان آخر سمّاه "رفع المقال": "حلبي أنا، حلب أحلامي ورؤاي تتخطى هذه الحدود المصطلح عليها وتمتد... وحلب جزء من كل حلبي، وحلب رمز إلى كل حلبي، فإلى حلب أرفع بحثي المتواضع هذا"( ).
ويتألف الكتاب من خمسة أقسام هي: 1- أسماء حلب. 2- حلب في الآثار.
3- المذاهب في تسميتها. 4- تحليل اسم حلب. 5- مَنْ بنى حلب.
ويؤكد المؤلف أن حلب من أقدم مدن العالم. وفي مغاورها تستقر حلب في العصر الحجري.
ومن كتبه أيضاً:
1- قواعد الكتابة العربية (وهو كتاب مدرسي طبع عام 1341 هـ).
2- البيان والبديع طبع عام 1936.
3- عروج أبي العلاء: قصيدة ملحمية للشاعر الأرمني أويديك إسحاقيان ترجمها الأسدي مع تشيتوبان راسيخ طبعت عام 1940.
4- أغاني القبة.
5- يا ليل.
6- أحياء حلب وأسواقها، استكمل التأليف فيها الأستاذ عبد الفتاح قلعه جي وطبعت في وزارة الثقافة بدمشق 1984.
ومن مخطوطاته:
1- الله. ويقع في 112 صفحة.
2- أيس وليس، يقع في 310 صفحات.
3- الألف، تقع في 431 صفحة.

دعبد الحميد ديوان
* * *

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

CINE E FEMEIA DIN MINE....Flori Gombos.

TOTUL O DILEMÃ, TOTUL RELATIV....Flori Gombos ..

Zivot je tren.... بقلم الأستاذة Barya Djurdjević Banda