طاولة الزهر........قصة قصيرة للأديب سلمان فراج


 طاولة الزهر
ما كاد أبو راضي ( يتقاعد ) بعد سنين خدمته الطويلة في الشرطة , حتى أرخى لحيته وتزين بلباس رجال الدين  إيذانا بالانضمام اليهم, ثم ما لبث أن أصبح ايماما لمسجد القرية ويعد من الشيوخ  الذين يقدمهم الناس في المناسبات ويخاطبوهم باحتشام , وقل خروجه من البيت واختلاطه بالجيران والاصحاب منكبا على حفظ القرآن الكريم.
وفي أيام الجمعة  كان يرتدي العباءة ويضع عمامته على رأسه , ويخرج الى ساحة الدار لينتظر أم راضي التي تلحق به وهي تفرد طرف حجابها على كتفيها لتسير وراءه الى الجامع باعتزاز وغنج ، حيث إن النساء في قريته يصلين بالمسجد وراء الرجال .ثم بعد انتهاء الصلاة  كانا  يخرجان في مجموعة من المصلين والمصلات من باب الجامع الى الطريق التي تكون عادة قد خلت من الناس , فالجميع في هذا  يلتزمون بيوتهم أمام أجهزة التلفزيون  .
يسير أبو راضي متقدما وهي تحاول أن تنهي اطراف حديثها مع النسوة وتودع بعضهن عند المنعطف بأسرع ما يمكن لكي تلحق بزوجها الذي سرعان ما يصبح وحيدا في طريق البيت لأن (حارته ) تخلو من الرجال ( المشايخ) .
لقد قالت الجارة أم نجيب وهي تحاول اللحاق بها عبثا ... مرة:
_ " يوم اصبح جارنا شيخا صار بيته كعش الحمام , لا نسمع فيه صوتا , وصار هو وأم راضي كالعرسان الجدد لا يفترقان ."
أما أبو نجيب فقد صرح أكثر من مرة عند طاولة الزهر المنصوبة أبدا تحت التينة الشتوية أمام دكانه:
_ " خسرنا لاعب زهر حريف , وصار الحديث معه بالميزان . "
ومشكلة أبي نجيب مع جاره أنه صار يتحرج معه في المزاح وهو الذي لا يتقن من الكلام غيره , وعندما حاول ان يقول له شيئا يوم عزم على المشيخة لم يجد في ذهنه الا جملة
 (خسرناك يا جار ... والله خسرناك).
فأجابه أبو راضي بحزم:
_ " اذا أترك طريق النار ."
واستمر يعالج الكرسي الخشبي الذي كان يصلحه عند باب بيته قبالة تينة ابي نجيب .
ضحك أبو نجيب ملء شدقيه رغم الإهانة  , وتظاهر بعدم الاهتمام فقد خبر تشدد المقدمين حديثا على المشيخة وصرامتهم في قطع صلتهم بسلوكهم ونمط حديثهم الماضي , كيف لا وقد فقد في السنين الأخيرة اكثر عشرائه الواحد بعد الاخر على هذا النحو , وما هو أربى على الدين لكنه ما زال يتصرف كابن الثلاثين ويقول لمن يذكره بأن سنه تقتضيه  الانتماء الى المشايخ :
_ " النفس غير طائعة يا عم  بعد  . الله كريم كل شيء في حينه مليح وفي غير حينه  حرام . "
ثم يقهقه  كعادته وهو قاعد عند طاولة الزهر أمام دكانه الذي ما زال على حاله منذ أربعين عاما  .
كم كان يحز في نفسه انه يجلس وحيدا تحت التينة أكثر ساعات النهار , يحرك حجارة الزهر حينا ويسند ظهره بجذعها حينا ليروح في غفوة , ثم يقف على رجليه , فيمشي ذهابا وإيابا أو يدخل دكانه ليريح زوجته التي اعتادت أن تقوم بالبيع فيه أكثر الوقت , وخصوصا بعد الظهر حيث يلتئم جمع رواد  طاولة الزهر  من رجال ( الحارة ) وقد عادوا من عملهم .
كم انتظر خروج جاره أبي راضي الى التقاعد بفارغ الصبر ليتسلى واياه أثناء النهار بلعبة الزهر , ولكن خاب فأله فيه .
جلس أبو نجيب في احد أيام الخريف تحت التينة كعادته , يطالع كتابا احضره له  راضي  ابن جاره ابي راضي الذي يخدم في احدى الفرق العسكرية  المتواجدة في ضواحي دمشق, حين عاد أمس سالما من الخدمة .
كان الجو جافا والرياح خفيفة تحمل معها غبارا من ساحة القرية امام الدكان , وتتقاذف الأوراق في كسل . وكانت الشمس حارة رغم دورانها الى الغرب فتضطره الى نقل كرسيه من مكان الى اخر كلما لحقت به اشعتها من خلال فروع التينة , كما كان يغلق الكتاب بين الحين والأخر ويروح في تفكير كسول ثم يستفيق على خشخشة الأوراق المتطايرة مع كل هبة ريح جديدة فتلاحق عيناه رقصاتها الغير متناسقة ثم سقوطها على الأرض بعد ارتطامها بالجدار فيتنهد ويغمض عينيه على إحساس ثقيل . ثم يرجع للكتاب ليدفن فيه بعض الوقت ريثما يحين موعد حلة العمال لتعمر الجلسة تحت التينة حول طاولة الزهر .
رفع رأسه حين احس بحركة في دار جاره أبي راضي , فرأى ( راضيا ) بلباسه العسكري يحمل سلاحه ويخرج من الباب ويتبعه والداه يودعانه ... بنظراتهما وقد تسمرا في مكانهما وهو يخطو باتجاه الساحة . فوقف والكتاب في احدى يديه واقترب الى اخر الظل وقال :
_ " للوظيفة ... ؟ ... الله يسهل طريقك ... انتبه لنفسك يا بني ."
فالتفت اليه راضي قائلا :
_ " بخاطرك يا عمي أبو نجيب . "
_ " الله معك يا عيني ."
توارى راضي عن الأنظار وأحس أبو نجيب بالدمع يرطب عينيه وهو يلاحقه بنظره ... ثم تدارك الموقف والتفت الى جاريه قائلا:
_ " المكتوب ما منه مهروب ... ربنا يجعل له في كل خطوة سلامة. "
فتمتمت أم راضي متظاهرة بالرد ... لكن الكلمات تحجرت في حلقها ودلفت الى داخل البيت.
أما أبو راضي فقال وهو يقترب من ابي نجيب:
_ " الحالة خطيرة ... الله يصلح الحال. "
أحس أبو نجيب بما يدور في نفس جاره من القلق والخوف على اخر العنقود من أولاده فدعاه الى الجلوس معه تحت التينة ... واستمر أبو راضي في مشيته وهو صامت ولم يفطن الى أنه حاف متعر بقميص وسروال أبيضين ولا يغطي راسه الا الطاقية البيضاء , فلما وصل الى ظل التينة سلم على جاره وجلس على الكرسي ... فقدم له أبو نجيب فنجانا من القهوة السادة  ثم جلس قبالته لا يعرف بأية لهجة يزيح هذا الجو الحرج ... فمد يده الى طاولة الزهر ووضعها بينهما و ( حذف ) حجرة ... و ( حذف) أبو راضي ...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

يا ليلى....بقلم الأستاذ و الشاعر عادل منصور العتيبي

TOTUL O DILEMÃ, TOTUL RELATIV....Flori Gombos ..

CINE E FEMEIA DIN MINE....Flori Gombos.